مهجّر من البصّة: "لن نسمح بنكبة جديدة لما تبقى من معالم قريتي"

مهجّر من البصّة: "لن نسمح بنكبة جديدة لما تبقى من معالم قريتي"

  • مهجّر من البصّة: "لن نسمح بنكبة جديدة لما تبقى من معالم قريتي"

فلسطيني قبل 8 شهر

مهجّر من البصّة: "لن نسمح بنكبة جديدة لما تبقى من معالم قريتي"

"لا تنسو أرضكم وقريتكم، دائمًا ما أصطحب أحفادي في جولات على أرضها، وأعرفهم بمعالمها وطبيعتها الساحرة الخلابة، ولدي صورة تذكارية تجمع أحفادي هنا على أرض البصة، وقد علقتها على أحد جدران منزلي..."

ثمانيني من مواليد 1937 في قرية البصة المهجرة شمالي فلسطين ومن سكان كفر ياسيف اليوم، ما زال يعيش على أمل العودة إلى قريته المهجرة، يرسم سبيلًا لأحلامه على أرضٍ ثكلى، غادرها أبناؤُها قسرًا ولم تغادر ذاكرتهم ووجدانهم للحظة، على أرض حلم عودته بجانب كنيسة البصة، التقينا في "عرب 48" مع خليل عاصي أبو فهد، والذي أبى إلا أن يعانق ما تبقى من حجارتها، وقد خط التاريخ على جبهته نقشا، كان لكل خط ارتسم عليها ذكرى، وبين تلك الخطوط جثا التاريخ المفعم بهوية عز، تأبى الذل والهوان، ويمحو آثارها ريح النسيان، رغم مرور ردح طويل من الزمان.

ومع استعداده للحوار سبقت دموعه الكلمات قائلا: "لدي الكثير ما أقوله عن بلدي البصة التي بُنيت بسواعد أهلها، شامخة مقامًا ومستقرا ومخضبة بالدم والعرق، وقد تشربت منهما راحًا وقدحا، بلدي التي كانت الأكثر تطورا في مجال التربية والتعليم فقد ضمت ثلاثة مدارس وكلية ويوجد بها مبنى أُطلق عليه ‘بيت الستات‘ وهو مركز لمبيت سيدات غالبا كن يصلن من ألمانيا ضمن بعثات تبشيرية، فيتخذن البصة مركزا لهن، فيما تواجد بيتنا بجانب ‘بيت الستات‘، كنا نلعب ونمرح ونجلس في ظل الشجرة الراسخة جذورها حتى الآن ويصل عمرها إلى أكثر من 100 عام. وقد أتيت أنا وأحفادي والتقطنا صورة تذكارية في ظلها. وقد تم تهجير قريتي في شهر نيسان/ أبريل من عام 1948، حيث تعتبر البصة القرية الفلسطينية الأخيرة على حدود لبنان، عدد سكانها حينذاك كان نحو 4200 نسمة، لم يبق منهم في الداخل الفلسطيني سوى 100 شخص، فيما هاجر الباقون إلى لبنان".

يتنهد أبو فهد وهو يخفي دموعه المتعثرة على خملة عينيه، ليقول: "إنها جريمة لطمس معالم البصة وسرقة تاريخها وحجارتها، إن حلم العودة لطالما راودني وراود والديّ، وما زلت على يقين بأنه سيأتي اليوم الذي نعود فيه أدراجنا، نعانق فيه تراب أرضنا، حتى أنني دائمًا ما أصحب أحفادي إلى هنا، ليروا معالم قريتهم، وألتقط لهم صورًا تذكارية، أهدف من خلالها إلى تعزيز أواصر الانتماء إلى القرية المنكوبة، وأحتفظ بهذه الصور، فأحفادي ورثوا حب البصة كما أورثنيها أبي وأجدادي وأورثتها أبنائي. كل من غادر البصة، غادرها على أمل العودة في غضون أسبوعين، وقد غادرها سكانها خوفًا من بطش آلة الاحتلال الدموية إلى لبنان، طلبًا للأمن والأمان، لا الاستقرار فيها، وكان في ظنهم أنها زيارة عابرة، يرفهون فيها عن أنفسهم، وليخففوا من وطأة أحداث النكبة الدموية المأساوية، وأملًا في استقرار الأوضاع وهدوئها، وبالتالي العودة إلى البصة، لكن شيئًا من هذا لم يحدث ولم يعد أحد إليها بعد ذاك".

لا يتمالك أبو فهد نفسه، فصوته يحمل اللوعة والألم عندما يذكر لنا قائلا: "إن كثيرًا من أهالي البصة طلبوا مني أن أجلب لهم حفنة من تراب البصة ليحتفظوا بها في منفاهم القسري" وهنا لا يستطيع أبو فهد إتمام كلامه فقد غصّ بدموعه وخبى صوته وهو يحاول أن يمنع نفسه عن البكاء.

وأشار في حديثه قائلا: "أثمَن قطعة أرض في البصة كانت تضم مبنى لبيت خالي والذي هو عبارة عن طابقين: الطابق الأرضي مقهى، والطابق الثاني عبارة عن فندق، وأمام المبنى يوجد ساحة خاصة لسيارات الأجرة والباصات. وتضم البصة إلى يومنا هذا ثلاثة كنائس ومسجد، وتم تطويب الكنائس على اسم بطريركية الروم الكاثوليك، والكنيسة الأرثوذكسية على اسم البطريركية الأرثوذكسية، وقد حظيت بشرف تعميدي هاهنا في البصة، إلا أن أبنائي وأحفادي تعمدوا خارجها، وما زال لدي الكثير من الكلام والمعلومات لا استطيع البوح بها كلها الآن بسبب الحزن الذي لا يفارقني على بلدي البصة المهجرة".

وتابع: "أحد عشر عامًا عشت على ثرى البصة، وما زلت أحملُ الشوقَ لكي ألثمها بعد طول فراق. خمسة وسبعون عامًا مرت وكأنها خمسة وسبعون قرنًا هي عمر هذه الأرض ولربما كان عمرها أزلا. هذه الأرض الثكلى الموشحة بالسواد رغم بعض الأزاهير التي خرجت من بين الحجارة الصماء لتقول لنا ها آنذا... أرض البصة التي لا تغادرها الذاكرة ولا تغيب عن الوجدان، هي الحاضرة الغائبة في الأفئدة المتعطشة لعودة ما كان".

يُخرج العم أبو فهد من جعبته صورة لبناء شامخ كان يتألف من طابقين، هدمته السلطات الإسرائيلية قبل يومين من لقائنا به، وينظر بأسى وحسرة إلى "الواجهة الغربية" التي ما زالت صامدة لتشهد على جريمة لم يجف حبر قرار ارتكابها، لتغتال إرثًا حضاريًا سقط أحد معالمه هاهنا، فهذا البناء قد عصفت به رياح التغيير الديمغرافي والعنصرية المقيتة، أسوة بأبنية أخرى هدمها المحتل إرضاءً لغروره.

يتابع حديثه واقفا بشموخ رغم الحزن والدموع يتأمل معالم البصة الباقية والمهددة بالهدم. يسترجع ذكريات الصبا، ليصف قريته البصة قائلا: "البصة من أجمل قرى فلسطين كانت وستبقى، هي شامخة كشموخ فلسطين بجبالها وأوديتها، وبحارها وأنهرها، بتلالها وساحلها، بأشجار الزيتون والليمون، والكرمة، التي تعتصر ثمارها حبًا للجذور المتغلغلة في الأرض الهرمة، الضاربة جذورها في عمق الحاضر والماضي، إنه الوفاء للأرض التي ما عرفته إلا في سنين عمري الأولى، لكني لم أنساها، فهذه الأرض أم تحنو على أبنائها البررة الذين ما زالوا يُؤمون إليها، رغم الدنس الذي شق في طريقها أخاديدًا من الظلم والاحتلال".

يقول أبو فهد وهو الشاهد على ألم عميق ينم عن جرح غائر: "إنه لموقف مهيب، ونظراتي لا يرتابها شك بالعودة القريبة، استذكر أهلي وخلاني وأقاربي، فهنا كان المعاش والمنتدى، وملاعب الصبا، استذكر مدرستي التي علمتني أبجدية الإخلاص للأرض والوطن، والانتماء إليه، وألا أنسى أن أفخر بقريتي التي هي الأكثر تطورًا في ذاك الزمان من قريناتها، وعلى محيطها"

يحاول أبو فهد التجاسر، والتغلب على دموعه ليقول: "ما زالت النكبة تحفر في أعماقي أسىً وحزن، كلما وطأت قدماي أرض البصة، إذ تنذرف دموعي على وجنتي فتحرقهما، فلا أستطيع إخفاء شجني وحزني أو كفكفة دموعي المنهملة كشلال غامر يصب في وادٍ سحيق".

وأوصى في نهاية حديثه "لا تنسو أرضكم وقريتكم، دائمًا ما أصطحب أحفادي في جولات على أرضها، وأعرفهم بمعالمها وطبيعتها الساحرة الخلابة، ولدي صورة تذكارية تجمع أحفادي هنا على أرض البصة، وقد علقتها على أحد جدران منزلي. كل مهجر من البصة يشعر بنفس شعوري، المشاعر تعجز عن وصفها الألسنة لأنها مطبوعة في القلوب".

عرب 48

التعليقات على خبر: مهجّر من البصّة: "لن نسمح بنكبة جديدة لما تبقى من معالم قريتي"

حمل التطبيق الأن